الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
ومن الناس من خرج كلامه على إسقاط همزة الإنكار عند إخراجه من العبراني إلى اللسان العربي، والمراد أصارت وفيه بعد، ومن العجب العجيب أن يوحنا ذكر أن المسيح قال لتلاميذه: إن لم تأكلوا جسدي وتشربوا دمي فلا حياة لكم بعدي لأن جسدي مأكل حق ودمي مشرب حق، ومن يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت فيّ وأثبت فيه، فلما سمع تلاميذه هذه الكلامة قالوا: ما أصعبها من يطيق سماعها فرجع كثير منهم عن صحبته، فإن هذا مع قوله: إن الله سبحانه هو الكلمة والكلمة صارت جسدًا في غاية الإشكال إذ فيه أمر الحادث بأكل الله تعالى القديم الأزلي وشربه، والحق أن شيئًا من الكلامين لم يثبت، فلا نتحمل مؤنة التأويل.وأما قولهم: إن اللاهوت ظهر بالناسوت فصار هو هو، فإما أن يريدوا به أن اللاهوت صار عين الناسوت كما يصرح به قولهم: صار هو هو، فيرجع إلى تجويز انقلاب الحقائق وهو محال كما علمت وإما أن يريدوا به أن اللاهوت اتصف بالناسوت فهو أيضًا محال لما ثبت من امتناع حلول الحادث بالقديم، أو أن الناسوت اتصف باللاهوت وهو أيضًا محال لامتناع حلول القديم بالحادث، وأما من قال منهم: بأن جوهر الإله القديم وجوهر الإنسان المحدث تركبا وصارا جوهرًا واحدًا هو المسيح فباطل من وجهين: الأول: ما ذكر من إبطال الاتحاد، الثاني: أنه ليس جعل الناسوت لاهوتًا بتركبه مع اللاهوت أولى من جعل اللاهوت ناسوتًا من جهة تركبه مع الناسوت ولم يقولوا به، وأما جوهر الفحمة إذا ألقيت في النار فلا نسلم أنه صار بعينه جوهر النار بل صار مجاورًا لجوهر النار، وغايته أن بعض صفات جوهر الفحمة وأعراضها بطلت بمجاورة جوهر النار، أما إن جوهر أحدهما صار جوهر الآخر فلا.وأما قولهم: إن الاتحاد بالناسوت الجزئي دون الكلي فمحال لأدلة إبطال الاتحاد وحلول القديم بالحادث، وبذلك يبطل قولهم: إن مريم ولدت إلهًا، وقولهم: القتل وقع على اللاهوت والناسوت معًا على أنه يوجب موت الإله وهو بديهي البطلان، وأما قول من قال: إن المسيح مع اتحاد جوهره قديم من وجه محدث من وجه فباطل لأنه إذا كان جوهر المسيح متحدًا لا كثرة فيه، فالحدوث إما أن يكون لعين ما قيل بقدمه، أو لغيره فإن كان الأول فهو محال وإلا لكان الشيء الواحد قديمًا لا أول له حادثًا له أول وهو متناقض، وإن كان الثاني فهو خلاف المفروض، وأما قول من قال: إن الكلمة مرت بمريم كمرور الماء في الميزاب فيلزم منه انتقال الكلمة وهو ممتنع كما لا يخفى، وبه يبطل قول من قال: إن الكلمة كانت تدخل جسد المسيح تارة وتفارقه أخرى، وقولهم: إن ما ظهر من صورة المسيح في الناسوت لم يكن جسمًا بل خيالًا كالصورة المرئية في المرآة باطل لأن من أصلهم أن المسيح إنما أحيا الميت وأبرأ الأكمه والأبرص بما فيه من اللاهوت، فإذا كان ما ظهر فيه من اللاهوت لا حقيقة له بل هو خيال محض لا يصلح لحدوث ما حدث عن الإله عنه، والقول: بأن أقنوم الحياة مخلوق حادث ليس كذلك لقيام الأدلة على قدم الصفات فهو قديم أزلي كيف وأنه لو كان حادثًا لكان الإله قبله غير حي، ومن ليس بحي لا يكون عالمًا ولا ناطقًا، وقول من قال: إن المسيح مخلوق قبل العالم وهو خالق لكل شيء باطل لقيام الأدلة على أنه كان الله تعالى ولا شيء غيره.وأما الأمانة التي هم بها متقربون وبما حوته متعبدون فبيان اضطرابها وتناقضها وتهافتها من وجوه: الأول أن قولهم: نؤمن بالواحد الأب صانع كل شيء، يناقض قولهم: وبالرب الواحد المسيح إلخ مناقضة لا تكاد تخفى، الثاني أن قولهم: إن يسوع المسيح ابن الله تعالى بكر الخلائق مشعر بحدوث المسيح إذ لا معنى لكونه ابنه إلا تأخره عنه إذ الوالد والولد لا يكونان معًا في الوجود وكونهما معًا مستحيل ببداهة العقول لأن الأب لا يخلو إما أن يكون ولد ولدًا لم يزل أو لم يكن، فإن قالوا: ولد ولدًا لم يزل، قلنا: فما ولد شيئًا إذ الابن لم يزل وإن ولد شيئًا لم يكن، فالولد حادث مخلوق وذلك مكذب لقولهم: إله حق من إله حق من جوهر أبيه وأنه أتقن العوالم بيده وخلق كل شيء، الثالث أن قولهم: إله حق من إله حق من جوهر أبيه يناقضه قول المسيح في الإنجيل: وقد سئل عن يوم القيامة فقال: لا أعرفه ولا يعرفه إلا الأب وحده، فلو كان من جوهر الأب لعلم ما يعلمه الأب على أنه لو جاز أن يكون إله ثان من إله أول لجاز أن يكون إله ثالث من إله ثان ولما وقف الأمر على غاية وهو محال، الرابع أن قولهم: إن يسوع أتقن العوالم بيده وخلق كل شيء باطل مكذب لما في الإنجيل إذ يقول متى: هذا مولد يسوع المسيح بن داود، وأيضًا خالق العالم لابد وأن يكون سابقًا عليه وأنى بسبق المسيح وقد ولدته مريم؟ا وأيضًا في الإنجيل إن إبليس قال للمسيح: أسجد لي وأعطيك جميع العالم وأملكك كل شيء ولا زال يسحبه من مكان إلى مكان ويحول بينه وبين مراده ويطمع في تعبده له فكيف يكون خالق العالم محصورًا في يد بعض العالم؟ا نعوذ بالله تعالى من الضلالة.الخامس أن قولهم: المسيح الإله الحق الذي نزل من السماء لخلاص الناس وتجسد من روح القدس وصار إنسانًا وحبل به وولد، فيه عدة مفاسد: منها أن المسيح لا يخص مجرد الكلمة ولا مجرد الجسد بل هو اسم يخص هذا الجسد الذي ولدته مريم عليها السلام ولم تكن الكلمة في الأزل مسيحًا فبطل أن يكون هو الذي نزل من السماء، ومنها أن الذي نزل من السماء لا يخلو إما أن يكون الكلمة أو الناسوت، فإن زعموا أن الذي نزل هو الناسوت فكذب صراح لأن ناسوته من مريم، وإن زعموا أنه اللاهوت فيقال: لا يخلو إما أن يكون الذات أو العلم المعبر عنه بالكلمة فإن كان الأول لزم لحوق النقائص للبارئ عز اسمه، وإن كان الثاني لزم انتقال الصفة وبقاء البارئ بلا علم وذلك باطل.ومنها أن قولهم: إنما نزل لخلاص معشر الناس يريدون به أن آدم عليه السلام لما عصى أوثق سائر ذريته في حبالة الشيطان وأوجب عليهم الخلود في النار فكان خلاصهم بقتل المسيح وصلبه والتنكيل به وذلك دعوى لا دلالة عليها، هب أنا سلمناها لهم لكن يقال: أخبرونا مم هذا الخلاص الذي تعنى الإله الأزلي له وفعل ما فعل بنفسه لأجله؟ ولم خلصكم؟ وممن خلصكم؟ وكيف استقل بخلاصكم دون الأب والروح والربوبية بينهم؟ وكيف ابتذل وامتهن في خلاصكم دون الأب والروح؟ فإن زعموا أن الخلاص من تكاليف الدنيا وهمومها أكذبهم الحس، وإن كان من تكاليف الشرع وأنهم قد حط عنهم الصلاة والصوم مثلًا أكذبهم المسيح.والحواريون بما وضعوه عليهم من التكاليف، وإن زعموا أنهم قد خلصوا من أحكام الدار الآخرة فمن ارتكب محرمًا منهم لم يؤاخذ أكذبهم الإنجيل والنبوات إذ يقول المسيح في الإنجيل إني أقيم الناس يوم القيامة عن يميني وشمالي فأقول لأهل اليمين: فعلتم كذا وكذا فاذهبوا إلى النعيم المعد لكم قبل تأسيس الدنيا، وأقول لأهل الشمال: فعلتم كذا وكذا فاذهبوا إلى العذاب المعدّ لكم قبل تأسيس العالم، السادس أن قولهم: وتجسد من روح القدس باطل بنص الإنجيل إذ يقول مَتّى في الفصل الثاني منه: إن يوحنا المعمداني حين عمد المسيح جاءت روح القدس إليه من السماء في صفة حمامة وذلك بعد ثلاثين من عمره.السابع أن قولهم: إن المسيح نزل من السماء وحملت به مريم وسكن في رحمها مكذب بقول لوقا الإنجيلي: إذ يقول في قصص الحواريين في الفصل الرابع عشر منه: إن الله تعالى هو خالق العالم بما فيه وهو رب السماء والأرض لا يسكن الهياكل ولا تناله أيدي الرجال ولا يحتاج إلى شيء من الأشياء لأنه الذي أعطى الناس الحياة، فوجودنا به وحياتنا وحركاتنا منه، فقد شهد لوقا بأن الباري وصفاته لا تسكن الهياكل ولا تناله الرجال بأيديها، وهذا ينافي كون الكلمة سكنت في هيكل مريم وتحولت إلى هيكل المسيح، الثامن أن قولهم: إنه بعد أن قتل وصلب قام من بين الأموات وصعد إلى السماء وجلس عن يمين أبيه من الكذب الفاحش المستلزم للحدوث، التاسع أن قولهم: إن يسوع هذا الرب الذي صلب وقتل مستعد للمجيء تارة أخرى لفصل القضاء بين الأموات والأحياء بمنزلة قول القائل:
إذ زعموا أنه في المرة الأولى عجز عن خلاص نفسه حتى تم عليه من أعدائه ما تم فكيف يقدر على خلاصهم بجملتهم في المرة الثانية، العاشر أن قولهم: ونؤمن بمعمودية واحدة لغفران الذنوب فيه مناقضة لأصولهم، وذلك أن اعتقاد النصارى أنه لم تغفر خطاياهم بدون قتل المسيح، ولذلك سموه جمل الله تعالى الذي يحمل عليه الخطايا، ودعوه مخلص العالم من الخطيئة فإذا آمنوا بأن المعمودية الواحدة هي التي تغفر خطاياهم وتخلص من ذنوبهم فقد صرحوا بأنه لا حاجة إلى قتل المسيح لاستقلال المعمودية بالخلاص والمغفرة فإن كان التعميد كافيًا للمغفرة فقد اعترفوا أن وقوع القتل عبث وإن كانت لا تحصل إلا بقتله فما فائدة التعميد وما هذا الإيمان؟ فهذه عشرة وجوه كاملة في ردّ تلك الأمانة وإظهار ما لهم فيها من الخيانة، ومن أمعن نظره ردّها بأضعاف ذلك، وقال أبو الفضل المالكي بعد كلام: ثم اعلم أنه لا حجة للنصارى القائلين بالتثليث بما روي عن متى التلميذ أنه قال: إن المسيح عندما ودعهم قال: اذهبوا وعمدوا الأمم باسم الأب والابن وروح القدس، ومن هنا جعلوا مفتتح الإنجيل ذلك كما أن مفتتح القرآن بسم الله الرحمن الرحيم، ويوهم كلام بعض منا أن هذه التسمية نزلت من السماء كالبسملة عندنا لأنا نقول على تقدير صحة الرواية، ودونها خرط القتاد: يحتمل أن يراد بالأب المبدأ، فإن القدماء كانوا يسمون المباديء بالآباء، ومن الابن الرسول، وسمي بذلك تشريفًا وإكرامًا كما سمي إبراهيم عليه السلام خليلًا، أو باعتبار أنهم يسمون الآثار أبناء، وقد رووا عن المسيح عليه السلام أنه قال: إني ذاهب إلى أبي وأبيكم، وقال: لا تعطوا صدقاتكم قدّام الناس لتتراءوهم فإنه لا يكون لكم أجر عند أبيكم الذي في السماء.وربما يقال: إن الابن بمعنى الحبيب أو نحوه، ويشير إلى ذلك ما رووه أنه عليه السلام قال عقيب وصية وصى بها الحواريين: لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماء وتكونوا تامّين كما أن أباكم الذي في السماء تام، ويراد بروح القدس جبريل عليه السلام، والمعنى عمدوا ببركة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم والملك المؤيد للأنبياء عليهم الصلاة والسلام على تبليغ أوامر ربهم، وفي كشف الغين عن الفرق بين البسملتين للشيخ عبد الغني النابلسي قدس سره أن بسملة النصارى مشيرة إلى ثلاث حضرات للأمر الإلهي الواحد الأحد: الغيب المطلق، فالأب إشارة إلى الروح الذي هو أول مخلوق لله تعالى كما في الخبر وهو المسمى بالعقل والقلم والحقيقة المحمدية، ويضاف إلى الله تعالى فيقال: روح الله تعالى للتشريف والتعظيم كـ {نَاقَةُ الله} [الشمس: 13] تعالى، و{رُوحُ القدس} [النحل: 102] إشارة إليه أيضًا باعتبار ظهوره بصورة البشر السوي النافخ في درع مريم عليها السلام، والابن إشارة إلى عيسى عليه السلام وهو ابن لذلك الروح باعتبار أن تكوّنه بسبب نفخه، والأب هو الابن، والابن هو روح القدس في الحقيقة، والغيب المطلق منزه مقدس عن هذه الثلاثة، فإنه سبحانه من حيث هو لا شيء معه ولا يمكن أن يكون معه شيء، فبسملة الإنجيل من مقام الصفات الإلهية والأسماء الربانية لا من مقام الذات الأقدسية.
|